16 - 08 - 2024

صفقة القرن العربية | الضربة القاضية للصراع، والفرصة الأخيرة لحل الدولتين.

صفقة القرن العربية | الضربة القاضية للصراع، والفرصة الأخيرة لحل الدولتين.

فكرت في نشر هذا المقال منذ سنوات بوصفه وسيلة لمواجهة صفقة القرن وخطورتها على القضية الفلسطينية ومستقبل الأمة العربية كلها، لكنني لم أجد دافعا لنشره بعد أن أفشل طليعة الأمة في فلسطين هذه الصفة، فلم أحبب تحمل ما يبدو فيه عند غالبية الشعب العربي من تنازل لا ضرورة له، لكن الأوضاع الحالية في غزة المجاهدة قد جعلت طرح الفكرة التي يدعو لها هذا المقال ضرورة ملحة.  

يقترح هذا المقال أن تبادر السلطة الفلسطينية أو الجامعة العربية بطلب تعديل في المبادرة العربية وإعادة طرحها وتبنيها، بوصفها الخط الأحمر عربيا. يتصف هذا التعديل المقترح بمجموعة من الصفات، أهمها، أنه تعديل طفيف، منطقي من الناحية القانونية، ممكن من الناحية الواقعية، بحيث يمكن النظر إليه بوصفه صفقة قرن حقيقية قادرة على تقديم حل متكامل للصراع، يتصف بالشمول والمقبولية الشعبية الواسعة، ومن ثم يمكن تحميل مسئولية استمرار الأزمة وتفاقمها للرافضين لهذا الحل.

وعلى الرغم من بساطة هذا التعديل المقترح فإنه يجعل المبادرة العربية قادرة على تحقيق أهداف جوهرية، أهمها: [1] تقديم دعم سياسي للمفاوض الفلسطيني من حيث إنها تلقي الكرة بشكل تام في الملعب الإسرائيلي؛ إذ إنه يزيل حجة يستخدمها ويقنع بها الكثيرون لرفض المبادرة العربية في صورتها الحالية. [2] إتاحة الحجة لوقف أية ضغوط على الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، حيث يمثل التطبيع تنازلا عن آخر ورقة ضغط عربية على الكيان، ومن ثم يمثل التنازل عنها مشاركة في تصفية القضية. [3] تقديم علاج فعال لبعض لأضرار الكبرى التي سببها اتفاق أوسلو الذي أضعف كثيرا موقف المفاوض العربي، دون اللجوء لرفض هذا الاتفاق الذي سبق أن وافقت منظمة التحرير عليه. [4] تقوية موقف فصائل المقاومة حيث يتيح لهم رفض المطالبة المجانية بالاعتراف بإسرائيل، ما دامت الأخيرة ترفض هذه المبادرة، التي تمثل الحد الأدنى لحل واقعي قابل للتطبيق، ومن خلال ذلك يمكن الحفاظ على الزخم العالمي الداعم للحقوق الفلسطينية والذي لا يجوز التفريط فيه بسبب ضعف الكفاءة السياسية في وقت أصبحت فيه القضية مرشحة لكي تكون قضية الضمير العالمي إذا تمتع الإخوة في فلسطين بمهارة سياسية تقارب المهارة النضالية وتواكب قدرتهم الهائلة على الصمود وتقديم التضحيات.  

لقد قدّم الملك عبد الله فكرة المبادرة العربية لتكون حلا مغريا يمكن أن تقبله إسرائيل [وذلك في سياق مزاعم عدد من الصحفيين والباحثين والسياسيين الأمريكيين للزعماء العرب بإمكانية إحلال السلام عند طمأنة إسرائيل بأنه سيكون سلاما عامًّا]، ومن هنا جاءت المبادرة لتعرض سلاما عربيا شاملا في مقابل الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو عام سبعة وستين، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، مع حل عادل متفق عليه منطلق من القرارات الدولية لقضية اللاجئين. 

وفي ذلك الحين لم ترفض إسرائيل المبادرة بشكل علني، لكنها تهربت عمليا من حجيتها ومنطقيتها من خلال الترويج لأن عودة اللاجئين تعني نهاية دولة إسرائيل؛ إذ ستكون الغلبة حينئذ للعنصر الفلسطيني، كما أن تعويضهم عن أراضيهم التي طردوا منها والتي تمثل غالب أرض إسرائيل أمر فوق الطاقة، ومن ثم تكون المبادرة العربية من باب الأمر بما لا يستطاع، ولذلك بدأ الحديث علنا عن يهودية الدولة، وكثرت الكتابات التي توضح أن قضية اللاجئين لا قضية القدس أو الحدود تمثل العقبة الكبرى في أي مشروع للسلام، مما يعني أن عدم تقديم تصور لحل قضية اللاجئين يمثل ثغرة في المبادرة تضعف من حجيتها، وتعطي للكيان الصهيوني فرصة للتشكيك في واقعيتها. 

وعلى الجانب الفلسطيني يجسد ملف اللاجئين معضلة كبرى أيضا؛ حيث إن حق العودة يعد حقا فرديا ثابتا لا يجوز للمؤسسات التفريط فيه في ضوء الحقوق الإنسانية والقانونية للأفراد، ومن ناحية ثانية يعد التنازل عنه معضلة سياسية لأنه يعد تصديرا لمشكلة ديمجرافية للجانب العربي، وهي مشكلة تسبب أزمة كبرى لبعض الدول العربية مثل لبنان والأردن، لكن الجانب الفلسطيني الداعي للحلول التفاوضية يعرف استحالة الوصول لحل تفاوضي يؤدي إلى عودة اللاجئين إلى المناطق التي هجروا منها في ظل موازين القوى الحالية، فهو يقضي على يهودية  الدولة، ولا يمكن تصوره دون هزيمة شاملة لإسرائيل.  

ومن هنا لقي الحجاج الإسرائيلي قبولا غير معلن من بعض الأطراف في الجانب العربي، بل في الجانب الفلسطيني، وفي ضوء هذا القبول غير المعلن حدثت الموجة الأولى من التطبيع، كما حدثت قبل ذلك تفاهمات (عباس بيلين) التي أدار الحوار حولها ياسر عبد ربه مع يوسي بيلين في نهاية حكومة إسحق رابين، وكان أهم ما جاء فيها هو أن تكون عودة اللاجئين عودة طوعية إلى الدولة الفلسطينية الوليدة لا إلى مناطقهم التي طردوا منها داخل فلسطين التاريخية، لكن هذه التفاهمات قوبلت بهجوم حاد، واضطر الرئيس عباس للتبرؤ منها بعد الرفض الشعبي لها، والتشهير الإعلامي المصاحب لعرضها، لا سيما أن اغتيال رابين كان قد أدى إلى وأد احتمال الوصول لاتفاق حقيقي، ولا أحد يستطيع تقديم تنازلات كبرى بشكل مجاني لا يضمن ماذا سيأخذ في مقابله، لا سيما في ضوء حساسية قضية اللاجئين بالنسبة للشعب الفلسطيني واللبناني والأردني.  

لقد تعودت إسرائيل أن تجد حججا لرفض السلام الذي نعرف قطعا أنها لا تريده،غير أن القوى الغربية الداعمة لها تدرك الحاجة الشديدة إليه لمصلحة إسرائيل، من ناحية ولأسباب تتصل بحاجة هذه القوى لتحالف مستقر مع العرب في صراعاتها الدولية، فالتحالف مع العرب بالنسبة للقوى الدولية الآن أكثر أهمية مما يتخيله كثير من العرب، ولا يمنع التحالف الحقيقي القوي القابل للبقاء معهم سوى استمرار المشكلة الفلسطينية. ولذلك ظلت المطالبات الأمريكية من القيادات العربية بعد مبادرة كامب ديفيد مرتبطة بتقديم منح مجانية لإسرائيل للتخلص من حججها لرفض السلام، وهي حجج لن تنتهي على كل حال، في حين أن إسرائيل تصبح أقوى بالمنح المجانية التي تحصل عليها فتتمكن من رفض كل الحلول. 

لقد جرى العرف أن تتحول الحجج الإسرائيلية إلى طلبات أمريكية توجه للعرب، فتحولت حجة أن السلام الموثوق به يجب أن يكون عاما، وليس فلسطينيا فقط، إلى طرح الملك عبد الله إقناعه بذلك للمبادرة العربية للسلام، كذلك تحولت حجة أن السلام لا جدوى منه إذا كان مع الأنظمة فقط، وظلت الشعوب ترفضه، إلى نشأة الخطاب الأمريكي المراوغ الداعم للديمقراطية إبان تولي المحافظين الجدد الإدارة الأمريكية أيام (بوش) الابن في إطار السعي للوصول إلى حكومات تنجز السلام بقبول شعبي، وهو ما تغير تماما بنجاح حركة حماس، وفي هذا السياق نشأت فكرة التفاهم مع الإسلام السياسي إبان حكم أوباما لمحاولة صنع ظهير شعبي لتنازلات عربية كبيرة، وهو التفاهم الذي حير كثيرين لأنهم لم يضعوه في سياق المحاولات المستمرة من مراكز البحث الأمريكية المرتبطة بالحزبين لتقديم حلول قد تشجع إسرائيل على قبول حل للصراع الذي يمثل حله مصلحة أمريكية ودولية تزداد أهميتها يوما بعد يوم، وبما أن الإدارة الأمريكية لم تعد قادرة على فرض حل على إسرائيل لأسباب داخلية فلا يكون أمامها سوى إقناعها أو إغرائها أو الضغط على الجانب العربي لتقديم التنازلات التي لا تنتهي، والتي تؤدي إلى نتيجة واحدة هي تقوية إسرائيل على رفض الشروط اللازمة للسلام. 

وعلى الرغم من تعدد الحجج الإسرائيلية واختلافها عبر الأزمنة ظلت الحجة الأقوى هي أن عودة اللاجئين بالشكل الذي تطلبه القرارات الدولية ويطالب به الفلسطينيون سيعني نهاية إسرائيل من الناحية الفعلية مما حدا بعدد من المفكرين الفلسطينيين إلى دعوة قومهم إلى الوضوح بشأن هذه القضية وتقديم تنازلات حولها، إذ ما دمنا قد وافقنا على السلام فعلينا أن نوافق على كل ما هو ضروري لتحقيقه. وهذه الفكرة تمثل سر اللوم المكتوم من بعض القيادات العربية للجانب الفلسطيني الذي يكتفي بالرفض ولا يقدم البديل. وفي هذا السياق أيضا حاول الرئيس المصري الأسبق (حسني مبارك) كثيرا التخفيف من حجم المشكلة والرد على الحجاج الإسرائيلي من خلال الجدال بأن قطاعا كبيرا من اللاجئين لن يعود أصلا، وكأنه كان يصدق أن ما يمنع السلام حقا هو تخوف إسرائيل من العواقب الديمجرافية لحق العودة، وليس مطلق رفضها لأي تسوية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، حتى إذا تضمنت حلا مناسبا لمشكلة اللاجئين.   

ومن هنا يذهب التعديل الذي أقترحه على المبادرة العربية إلى تقديم حل منطقي يمكن قبوله شعبيا على نطاق واسع لقضية اللاجئين من خلال تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم [194] القاضي بعودة اللاجئين وتعويضهم، دون رفض اتفاق أوسلو بعد قبوله، ودون سحب المبادرة العربية بعد تقديمها، وذلك بأن يكون التعويض المنصوص عليه للاجئين أرضا لا مالا، من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ثمانية وأربعين والتي قبل اتفاق أوسلو للأسف الشديد أنها أراض إسرائيلية، ولا يسع من قبلوه المطالبة بمزيد من الأرض. لكن المطالبة بها في ضوء هذا الاقتراح ستقدم بوصفها التعويض المناسب لحل قضية اللاجئين التي لم يفرط فيها أحد بشكل رسمي حتى الآن، على أن تكون الأرض المطلوبة للتعويض ذات صفات خاصة تجعل الوصول إلى الصفقة ممكنا من الناحية المنطقية، وقادرا على تقديم حل حقيقي للصراع، قابل للاستمرار دون أن يحوله من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع عربي عربي كما ستفعل الصيغ الأخرى المقترحة إذا استدرجت بعض الأنظمة العربية للموافقة عليها.

وتكون هذه الأرض التعويضية عن أراضي اللاجئين مناسبة لحل يلقى قبولا واسعا إذا مثلت شريطًا حدوديًّا ممتدًا وعميقًا يربط بين الضفة والقطاع بمحاذاة الحدود المصرية والأردنية مع فلسطين التاريخية؛ بحيث لا يكون لمصر حدود مع إسرائيل، ولا للأردن جنوب الضفة حدود معها، وإنما تكون حدودهما مع الدولة الفلسطينية الوليدة، على النحو الموضح بالخريطة التي ألحقتها بالمقال لمجرد فهم الفكرة وليس لتحديد المساحة.

وبذلك التعويض يعود الترابط الجغرافي بين دول الوطن العربي، ويكون لدى اللاجئين   من الأرض ما يكفي عودتهم لدولة قابلة للحياة، دون أن يأخذوا من مصر أو الأردن   شيئا، على أن يتحدد عمق الشريط الحدودي بحيث يكفي اللاجئين العائدين ويكافئ نسبة   معقولة من حقوقهم في أرضهم التي احتلتها إسرائيل عام 48 ، وبحيث لا يضم كتلا   سكانية إسرائيلية كبيرة في الوقت ذاته، وهو أمر ممكن لحسن الحظ فأكثر الأراضي   المطلوبة صحراء غير مأهولة، كما يمكن اقتراح تأجير جزء من ميناء إيلات، وقبول   إقامة إعداد قليلة من الإسرائيليين في الدولة الوليدة بوصفهم أجانب لهم حق   الإقامة لفترة مؤقتة، للتأكيد على إمكانية الفكرة ومنطقيتها، ويمكن زيادة في   التشجيع قبول وجود لقوات سلام عربية لفترة محدودة. 

إن إعلان مثل هذا الحل يمكن الدفاع عنه شعبيًّا، على المستوى العربي والفلسطيني، فهو يعني عودة اللاجئين إلى أرض من أرضهم تكفيهم وتوقف الحالة المعيشية الصعبة لهم، ولا تجعل من وجودهم في الغربة مشكلة ديمجرافية لبعض إخوانهم تقلل الترحيب بهم، كما أن عودة التواصل الجغرافي للوطن العربي يمثل حلا (شبه مناسب) للبعد العربي للصراع، فهو يزيل أحد أهم الأسباب الذي يجعل وجود إسرائيل ذاته كارثيا بالنسبة للعرب. كما أن عودة السيادة على القدس الشرقية يمثل حلا (شبه مناسب) للبعد الإسلامي للصراع، ومن هنا يمكن الدفاع عن إمكانية استمرار السلام وشموليته، حتى في حالة نظم عربية ديمقراطية قوية. 

كذلك يمكن الدفاع عن هذا الحل قانونيا حتى في ضوء قبول السلطة الذي ثبتت سذاجته لاتفاق أوسلو الذي كان معناه للأسف الشديد التنازل مقدما عن معظم فلسطين التاريخية في مقابل الانسحاب المؤجل من الضفة والقطاع.

 وتأتي الملائمة القانونية لهذا الاقتراح من أنه يتحدث عن تعويض اللاجئين أرضا، والتعويض مقرر دوليا، وحق العودة ثابت، والسلطة لم تتنازل عن هذين الحقين حتى الآن، وبالإضافة إلى ذلك تمثل المبادرة بهذا الشكل فرصة اقتصادية كبرى تغري بضخ تمويلات عربية هائلة توافق الشعوب العربية موافقة حقيقية على ضخها على عكس ما يحدث الآن، مما يعني على سبيل المثال تعديلات جذرية في مشروع (نيوم) كما يعني سهولة أكبر لتصدير النفط الخليجي عبر قناة السويس، وسهولة إنشاء مدن تستوعب العائدين، وإقامة مشروعات كبرى تنمي المنطقة كلها، على جانبي طريق الحج البري الذي ستعود له الحياة من جديد، مما يزيد القبول الشعبي للمبادرة، ويعوض عن قبول أراض صحراوية بدل الأراضي الزراعية الخصبة التي أخذت من اللاجئين والتي يحتفظون بوثائق ملكيتها حتى الآن، وستزداد هذه المبادرة إقناعا في العالم الغربي كلما ثبت للهواة الحواة في مراكز الأبحاث الأمريكية استحالة الاستقرار والتنمية في المنطقة دون حل سياسي، وأنه لا وجود في الواقع لذلك المستثمر الأحمق الذي يضخ أموالا طائلة في مناطق النزاع، وأن الشعوب العربية لم تمت حتى الآن بشكل كامل يسمح بتصفية القضية، ذات البعد العربي والإسلامي. 

وعلى غرار الولع الأمريكي بإطلاق الأسماء على المبادرات والحروب يمكن تسمية هذه المبادرة بالضربة القاضية للصراع استثمارا للخبرة المتولدة عن المحاولات السابقة التي أثبتت أن أية مبادرة تتم على مراحل لن يكتب لها النجاح، لسرعة تغير الظروف على نحو ما حدث باغتيال رابين، ولوجود رافضين إيديولوجيين على الجانبين لأي حل، مما يعني أن التنفيذ على مراحل، وترك مشكلات عالقة لمفاوضات تالية يساعد الرافضين على تدمير ما تم بناؤه كما حدث دائما، فهذا صراع لا يحسم بالنقاط، وإنما بالضربة القاضية التي تحاول أن تقضي على أسس الصراع، في مقابل الأفكار المطروحة التي لا تقضي على الصراع وإنما تحاول إدارته إلى أن يتم القضاء على الطرف الفلسطيني والتي يثبت دائما أنها أوهام غير قابلة للتحقق.  

ومن المهم في الختام أن أذكر أن كاتب هذه السطور ليست لديه أية أوهام بأن المبادرة العربية بهذا التعديل ستلقى قبولا إسرائيليا مهما بدت منطقية وقادرة على حل الصراع، ولذلك فالقيمة العملية الحقيقية للمبادرة بعد تعديلها وتبنيها هي أنها ستخفف الضغط على العرب جميعا والفلسطينيين والأردنيين خصوصا، وستقدم حلا يسهل عليهم الدفاع عنه، ويسهل عليهم اعتمادا على حجيته رفض تقديم أية تنازلات لاحقة. 

ولذلك فنصيحتي لفصائل المقاومة الفلسطينية ألا تبادر برفضها، رغم الإقرار بحقها في ذلك الرفض، كما سيرفضها دائما اليمين الإسرائيلي، وإنما الجدير بها أن تبادر بالإعلان عن أنها قابلة للدراسة، ومسموح لها بأن تكون أرضية للتفاوض، وأنها ستبدي رأيها النهائي فيها في حالة واحدة هي حالة موافقة إسرائيل عليها، ووصول المفاوضات حول الأراضي التعويضية إلى الحد المقبول الذي يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني، ويتناسب مع الوزن الديمجرافي له، ومع حقوقه التي نصت عليها القرارات الدولية. 

إن دراسة السلوك الإسرائيلي مع كل الأفكار المطروحة يؤكد أن هذه المبادرة ستكون مرفوضة من باب أولى، حيث تعودت الدولة العبرية على ثلاثة أمور مع كل الحلول المقدمة لها: الأول أن تأخذ مقدما ثمن أي اتفاق أو مبادرة، والثاني أن ترجئ دفع ما يجب عليها دفعه إلى مراحل تالية لا تأتي أبدا، والثالث أن تستخدم الثمن الذي قبضته مقدما في تقوية موقفها وإضعاف الأطراف الأخرى، ومن ثم تقدم طلبات جديدة تأسيسا على القوة التي حققتها مما أخذته مجانا. 

ومن يعرف ذلك يعرف أن التصريح بحق أي طرف من أطراف الشعب الفلسطيني في رفض مثل هذا الاقتراح لا يعني حقه في استخدام لغة خطابية لمهاجمته، فهذا المسلك مضيع للحقوق، ومضعف للمفاوض العربي،ومدمر للتأييد العالمي للقضية العادلة المرشحة لكي تكون قضية الضمير الإنساني، مما يعطي للاحتلال فرصا لمحاولة تصفية القضية تحت الزعم بأنه لا حل ممكنا لها. ومن ثم يكون السلوك المقبول للرافضين للمبادرة متمثلا في أحد أمرين: الأول إعلان أنهم من أنصار حل الدولة الديمقراطية الواحدة التي يعود إليها جميع اللاجئين، وهذا حل يحقق أحلامهم إذ ستكون دولة عربية حينئذ، وهذا ما يستحيل قبوله إسرائيليا في ظل موازين القوى الحالية، ومن ثم فلن يخسر هؤلاء شيئا من تبنيه، والثاني تعليق إعلان رأيهم في هذه المبادرة ليكون بعد قبولها إسرائيليا، وبالتالي لا يضعفون موقف المفاوض الفلسطيني، على أن يكون هذا المفاوض منتخبا، أو متوافقا عليه من الفصائل كلها. 

إن علينا التأكيد بشكل مستمر على ضرورة أن تكون لدى المفاوض العربي طلبات مفهومة تحقق الحد الأدنى من الحقوق من ناحية، وتمثل طرحا مقبولا عند الغالبية العربية والفلسطينية من ناحية ثانية، ويستطيع العالم تفهمها من ناحية ثالثة، وذلك حفاظا على الزخم العالمي الذي حققته الأعمال البطولية الأخيرة في غزة المقاومة الباسلة، وحفاظا على أن يكون العمل المقاوم تحت مظلة سياسية تدعمه وتمنع من ضياع الجهود الهائلة المبذولة فيه أدراج الرياح. 

ولعل النتيجة العملية المتوقعة من هذه المبادرة التي سترفض إسرائيليا ستتمثل في منح العمل المقاوم مظلة سياسية وإعلامية تدعم مشروعيته عالميا، وهذه النتيجة ليست قليلة الأثر.

وفي زعمي أنه ليس أفضل بالنسبة للمقاومة الفلسطينية الآن من أن تعلن استعدادها لقبول هدنة لعدة سنوات تضمن فيها ألا تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل في مقابل ما يلي: 

  1. تحرير الأسرى الفلسطينيين جميعا. 
  2. فك الحصار عن غزة تماما
  3. وقف الاستفزازات الإسرائيلية باقتحام الأقصى، وببناء المستوطنات، والضغوط المعيشية على الضفة. 
  4. اعتراف دولي واسع بالدولة الفلسطينية وفق هذه المبادرة مع قبول عضويتها عاجلا في الأمم المتحدة. 
  5. إعلان أنها ستترك لوفد فلسطيني منتخب أو متوافق عليه فرصة للتفاوض في إطار هذه المبادرة لمدة هذه الهدنة للوصول إلى الدولة الفلسطينية المأمولة. ومن حقها بعد ذلك إذا ظلت على الرفض لأسباب إيديولوجية ولم تعجبها نتائج المفاوضات أن تنسحب من المشهد السياسي وتترك الإدارة لمن قبلوا، ما داموا يحوزون قبولا شعبيا، ويحققون الحد الأدنى من الحقوق.

ويزعم كاتب هذه السطور أنه قادر على تقديم حجج تسوغ هذه المبادرة دينيا، وتقنع بها كثير من الرافضين لأسباب شرعية، لكنه يرى أن المبادرة بتقديم مثل هذه الحجج قبل تحقيق هذا الحل يمثل طعنة كبرى للقضية، لا تقل عن الذهاب للتطبيع قبل حلها. 

ومن الناحية الدبلوماسية يستطيع المفاوض الفلسطيني أن يكسب أنصارا حقيقيين لهذا التعديل للمبادرة العربية في الغرب وفي أمريكا وداخل إسرائيل نفسها، فكل من يعرف تفاصيل قضية اللاجئين يعرف مقدار تعقيدها وجوهريتها، وأنه لا حل بدون حلها، والعالم يحتاج الحل كما يحتاجه العرب والفلسطينيون، كذلك يستطيع المفاوض الفلسطيني الترويج لهذا الحل في فضاءات كثيرة، عربية وإقليمية وعالمية، وحصد نتائج مهمة جدا لهذا الترويج، فعلى سبيل المثال سوف ينقلب الوضع السياسي تماما وتحشر إسرائيل في الزاوية إذا ما صرحت إيران أنها قد تقبل مثل هذا الحل عندما تقبله الأطراف، وهذا أمر ممكن حيث يرى قطاع من النخبة الإيرانية أن عليهم قبول ما يقبله الفلسطينيون ما دامت قضية القدس قد حلت، وكاتب هذه السطور يعرف معرقة مباشرة أن هذا القطاع ليس قليلا في إيران، وإن كان صوته خافتا، وفي هذا الإطار يمكن الحصول على موافقة عليها من الجمعية العامة. 

 أما الظروف التي يمكن أن تتحرك فيها مثل هذه المبادرة، وكيفية الدعوة إليها، فتتمثل في أمور كثيرة، سنعرض لها لاحقا، لكن ما يجب التصريح بضرورته الآن هو ضرورة النجاح في إعمار غزة وفك الحصار عنها على نحو يثبت المرابطين في رباطهم، ويفشل خطة الأعداء وحلفائهم بجعل غزة غير قابلة للحياة، ويمنع من ابتزاز المقاومة بالإعمار، وهذه قضية كبرى ستحدد نتائج الصراع مستقبلا، وهذا أمر ممكن بعيدا عن ما يسمى بالدول الداعمة من خلال أفكار إبداعية بسيطة جدا وقابلة للتنفيذ سأحاول طرحها في مقال تال، فما يملكه العرب من أوراق لكسب هذا الصراع كثير جدا، بل إن الإدارة الحسنة لهذا الصراع قادرة على الإسهام في حل الكثير من المشاكل العربية الداخلية المستعصية، وعلى العرب أن يعلنوا بشكل عاجل أن الدفع قد أصبح الآن بعد الاستلام، بل بعد الاطمئنان على سلامة السلعة وجودتها، وعليهم منع السيد بلينكن من أن يكرر مع إنجاز المقاومة في السابع من أكتوبر ما فعله السيد كيسنجر وسجله في مذكراته مع الإنجاز المصري في السادس من أكتوبر، مما يفوت على العرب بسبب ضعف الكفاءة السياسية فرصة الحصول على نتائج منجز عسكري كبير دفعوا فيه تضحيات هائلة، وبالتالي تنقلب الأمور فيصبح وضعهم أضعف مستقبلا بسبب التضحيات الكبرى التي لم تتحول إلى ثمار، والآمال العريضة التي وأدتها الخيبات السياسية، إن على العرب أن يتوقفوا عن خيانة الدماء بتكرار ما حدث سابقا، وأن يتأكدوا أن أي سلوك انتهازي يحاول البعض به دعم شرعيته من خلال إرضاء الغرب لن يجر على صاحبه ولن يجر على الأمة إلا الضعف والحسرة والندم، مما يعني أن أي نوع جديد من التطبيع يجب أن يكون بثلاثة شروط، الأول أن تقوم الدولة الفلسطينية فعلا، وليس بمجرد أن يقدم اعتراف بهذه الدولة يمكن سحبه أو إعادة تفسيره، وليس بمجرد تقديم خطة طريق أو إطار زمني يقال عنه لاحقا أنه ليس مقدسا كما كان رابين نفسه يقول عن كل المواعيد المنصوصة في أوسلو، والشرط الثاني أن تكون هذه الدولة دولة حقيقية وليست اسم دولة يطلق على كيان هلامي لا طعم ولا رائحة له، والشرط الثالث أن يحل البعد العربي من الصراع بإعادة التواصل الجغرافي على النحو المبين لاحقا، والبعد الإسلامي باستعادة الأقصى فيكون للحل قبولا شعبيا، وكل ذلك ممكن لو فقه العرب حقيقة وضعهم الاستراتيجي، ودعموا مرابطيهم وطليعتهم كما ينبغي، وعلموا أنهم غير مضطرين لتقديم هدايا مجانية لدعم بايدن وغيره بالتضحية بمستقبلهم وإخوانهم، وللحديث بقية عن كيفية دعم المرابطين من خلال الشعوب دون إشكالات سياسية أو قانونية، ودون تركهم لابتزاز حلفاء أعدائهم.
-------------------------------
بقلم: د. حسام أحمد قاسم 
أستاذ بجامعة القاهرة
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

صفقة القرن العربية | الضربة القاضية للصراع، والفرصة الأخيرة لحل الدولتين.